الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
فتذكر- أيها الداعية- أنك معرَّضٌ لتلقي الأذى في الله، وهي- لعمرو الله- سنةُ الأنبياء والمرسلين، وعادةُ الهداةِ المصلحين. فلقد امتُحنوا بأنواع الصدِّ والتكذيب، وصنوفِ المكرِ والتعذيب، فما صدَّهم عن أداء الأمانة، وتبليغ الرسالة، قال الله تعالى: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله وكفى بالله حسيبا}.
ولو أنعمت النظر في سيرة المختار، والصحب الأطهار، لوجدت العجب العجاب في الصبر على الأذى، والثبات على الهدى. والمأمول فيك اتباعُ هديهم، واقتفاءُ أثرهم..
على أن ابن القيم قد أخلصَ لك النصحَ مثبتا، بيراعٍ بارعة، وبلاغةٍ آسرة:
لا توحشنك غربة بين الورى *** فالناس كالأموات في الحسبان
أو ما علمت بأن أهل السنة *** الغرباء حقًّا عند كل زمان
قل لي: متى سلم الرسول وصحبه *** والتابعون لهم على الإحسان
من جاهل ومنافق ومعاند *** ومحارب بالبغي والعدوان
وتظن أنك تابع لهم وما *** ذقت الأذى في نصرة الرحمن
وعليه أيها الحبيب، فالمحنةُ في سنن الدعاة مُحَتَّمة، ولقد كان ذوو البصائر يسبرون صدق الرجل بمقدار جَلَدِه وصبرِه. قال الإمامُ مالك رحمه الله: (لقد ضُربتُ فيما ضُربَ فيه ابنُ المسيب ومحمدُ بن المنكدر، ولا خيرَ فيمن لا يؤذى في هذا الأمر).
بيد أن الداعيةَ الأريب، الألمعي النجيب، هو الذي يَجعلُ المحنةَ بحول الله منحة، فيثبت ويصبر ويحتسب، آخذًا بوصية فقيهِ المحنِ ابنِ تيمية في قوله: (كثيرٌ من الناسِ إذا رأوا المنكر، أو تغيَّرَ كثيرٌ من أحوالِ الإسلام، جزعَ وكلَّ وناحَ كما ينوح أهلُ المصائب، وهو منهيٌ عن هذا، بل هو مأمورٌ بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبةَ للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر، إن وعدَ الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمدِ ربه بالعشي والإبكار).
وفي كثيرٍ من الأحايين يكون الأذى المعنويُ أشدَّ على النفس من أذى الجسد، فها هو الشاطبيُّ العلامةُ يحكي شيئًا مما حصلَ له، من أذى بعضِ من أنس بالبدع والمحدثات، قال رحمه الله: (فتردد النظرُ بين أن أتبعَ السنةَ على شرطِ مخالفةِ ما اعتادَ الناس، فلا بدَّ من حصولِ نحو مما حصلَ لمخالفي العوائد.. وفي ذلك العبءُ الثقيلُ مع ما فيه من الأجرِ الجزيل، وبين أن أتبعَهم على شرط مخالفةِ السنةِ والسلفِ الصالح، فرأيت أن الهلاكَ في اتباعِ السنةِ هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا، فأخذتُ في ذلك على حكم التدريجِ في بعض الأمور، فقامت علي القيامة، وتواترت علي الملامة..، ونُسبتُ إلى البدعةِ والضلالة، وأُنزلتُ منزلةَ أهلِ الغباوةِ والجهالة). اهـ.
بيد أن التراجعَ والنكوص، واليأسَ والقنوط، عند اشتدادِ الأذى وتكاثر الفِرى، ليس من شأن ذوي الفضل والنباهة، ومن بلغ في الدين المنزلةَ والمكانة.
على أن العلامةَ النَظَّار بكر أبو زيد رحمه الله، قد شخَّصَ صنوفَ الإيذاء، ففصَّل في الأمر وقعَّد، وأجاب وفنَّد، وعلَّمَك فقهَ التعاملِ مع المؤذين فقال:
1- استمسك بما أنت عليه من الحق المبين من أنوار الوحيين الشريفين وسلوك جادة السلف الصالحين، ولا يحركك تهيج المرجفين، وتباين أقوالهم فيك عن موقعك فتضل..
2- لا تبتئس بما يقولون، ولا تحزن بما يفعلون، وخذ بوصية الله سبحانه لعبده ونبيه نوح عليه السلام {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون}.
3- ولا يُثنك هذا الإرجافُ عن موقفك الحق، وأنت داعٍ إلى الله على بصيرة فالثباتَ الثبات متوكلًا على مولاك- والله يتولى الصالحين..
4- ليكن في سيرتك وسريرتك من النقاء، والصفاء والشفقة على الخلق، ما يحملك على استيعاب الآخرين، وكظم الغيظ، والإعراض عن عرض من وقع فيك، ولا تشغل نفسك بذكره، واستعمل العزلة الشعورية، فهذا غايةٌ في نبلِ النفسِ وصفاءِ المعدن وخُلُقِ المسلم، وأنت بهذا كأنما تُسِفُّ الظالمَ الملَّ، والأمورُ مرهونةٌ بحقائقها، وأما الزبدُ فيذهبُ جُفاء. اهـ. كلامه وهو نفيسٌ جدا.
وفي هذه الوصية النفيسة، وما حوته من علقٍ ودُرر، حليةٌ وسلوة، لمن ظُلِم فغَفَر، وأوذي في الله فصَبَر.. والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: محمد العيساوي.
المصدر: موقع كتاب عبد الله بن مسعود.